Asyah Al Bualy Articles

قراءة في عدسة الفنان: محمد الزبير

أضف تعليق

أي عين هذه تلتقط المشهد فتضفي عليه حياة مضاعفة؟ أنها عين أسطورية تنتمي إلى عالم غير العالم وزمن غير الزمان؛ إنها عدسة معالي الوزير الفنان: محمد الزبير بكل ما فيها من قدرة فنية ساحرة، في تحويل الأشياء لتفوق سحر الغيبيات.
بداية فليسمح لي معالي الوزير أن أخاطبه بلقب (الفنان) دون (الوزير) لما في (الفنان) من خصوصية التعبير عن ذات مبدعة خلاقة، تمتلك ثراء فني مميز، يوحي بعمق الجوهر.
فأقول له: أيها الفنان، من تمتلك فن التصوير الفوتوغرافي، فضلاً عن الرسم بالريشة والألوان الزيتية أين أنت من فنك؟ وأين فنك من ساحة الفنون بالسلطنة؟.
بعد استقرائي السريع للقطات فوتوغرافية تتسم بالندرة وتوحي بخصوصية فنان مبدع، حيث تقف الكلمات في استحياء عاجز عن وصف فنية كل تعبير من تعبيرات المناظر في الصور، أقول لك: لا عتاباً ولا مجاملة، بل دعوة ملحة في الوقوف مع الذات حتى لا تنتحر الخطوط والألوان، وتتلاشى روح فنية عالية.
ففي سطور قليلة أدعوك أيها القارئ لقراءة نموذجين من نماذج صور فوتوغرافية للفنان: محمد الزبير، لتكتشف معي قدرته في التحكم في عين الكاميرا (العدسة) وتطويعه إياها بأسلوب ينم عن ثراء فني، وحس مرهف ورقة تحول الموجودات من الجفاء إلى اللين، ومن السكوت إلى الحركة، ومن الصمت إلى الكلام، ومن حلم إلى حقيقة.
صورتان فوتوغرافيتان تحويان على منظرين (غروب وشروق)، ولكن الفريد والنادر في الموضوع أن الفنان محمد الزبير قد جمع اللحظتين في آنية واحدة بحس (مادوني) لا يقبل الانقسام، فاجتمع الغروب بالشروق في كل صورة من الصورتين، على نحو يذكرنا بوظيفة ا لطباق في النقد البلاغي التقليدي، إذ يقوم الطباق في آنية واحدة بجمع ضدين يحققان الاختلاف والشمول في المعنى.
ولما كانت البلاغة بمنظورها الحديث (البيوطيقا) – (POETICS) تدعو إلى قراءة النص من منظور يتجاوز الجزئيات المنفصلة عن بعضها البعض، إلى النظرة الشمولية لهذه الجزئيات في علاقة بعضها البعض من أجل الوصول إلى الدلالة العامة للنص، أي خصوصية النص بما يسمى بالأدبية في لغة النقد الأدبي، فإنني أدعوك أيها القارئ لقراءة النموذجين السابقين من منظور البلاغة الحديثة، حتى تصل معي إلى أن دلالة التوحد بين لحظتي الغروب والشروق في كل منظر من منظري الصورتين هي: السمو والارتقاء الروحي اللذان يوصلان إلى ميلاد آخر ومن ثم بعث، وحياة جديدة.
فالمنظران في الصورتين – للوهولة الأولى- يبدوان لغروب الشمس حيث التقاء مدى البحر البعيد بأفق السماء وقت المغيب.
ففي المنظر الأول يظهر قرص الشمس بشكل تبئيري محدد، حيث يغطس القرص الدائري الذي في وسط الصورة من وراء طبقات السحب في حركة تدرجية سفلية إلى قلب البحر، بينما يظهر ذات القرص في المنظر الثاني وسط الصورة –أيضاً- على نحو متماه يوحي بذوبان أشعة الشمس في السحب بشكل تدريجي، وكأن الشمس تسحب خيوط ذ يولها الأخيرة في حركة تصاعدية توحي بالاختفاء التدريجي.
ومن خلال حركة الشمس في المنظرين سواء بالسقوط أو الصعود بكل ما فيها من إيحاء بالامتداد الزمني، نصل إلى أولى الدلالات في الصورتين: وهي الغروب بكل ما فيه من معاني الموات والانتهاء.
وتتجلى المقدرة الفنية للفنان محمد الزبير ورهافة حسه في توظيف بقية مفردات المكان (المنظرين)، على نحو يجعلك حال رؤيتك للصورتين ترى انبثاق الشروق من ذات لحظة الغروب، وبعبارة أخرى انبثاق الحياة من الموت.
وقبل التطرق إلى توضيح كيفية تحقق ذلك يجب أن ألفت الانتباه إلى أن أكثر السيمات ميزة لعدسة كاميرا الفنان محمد زبير، هي تقنية هذا الفنان في التركيز على مفرده بعينها من مفردات موضوع الصورة- وهو ما لاحظته قدر المستطاع من خلال استقرائي لمجموعات لقطات تصويره – بحيث يجعل هذه المفردة هي البقعة المشعة بشتى أنواع الدلالات التي تنسحب بعد ذلك إلى بقية ظلال الصورة.
فضلاً عن أن فنية محمد الزبير تتجلى أبهى صورها في اختياره لزاوية التصوير، وفي جعله الإضاءة في الأغلب الأعم من صوره الفوتوغرافية تكون من الخلف، هذا بالإضافة إلى طريقته في توزيع الإضاءة على الصورة، إذ يوحي هذا التوزيع بالإنقشاع التدريجي، والاختلاف اللوني مما يؤدي إلى تنوع الدلالة في صوره.
فإذا ما نظرنا إلى الصورة الأولى (المنظر الأول) نجد أن توزيع الضوء قد أنتج لنا التدرج في توزيع اللون الأحمر، بحيث بدأ هذا التدرج من أسفل الصورة وتوزع بشكل تصاعدي. من حمرة قاتمة ممزوجة بسواد، إلى حمرة أرجوانية إلى حمرة ممزوجة باللون الأزرق، ثم باللون الأخضر، ثم باللون الرمادي، إلى أن وصل بنا التوزيع إلى اللون الأبيض (قرص الشمس) الممزوج باللون الأصفر، الأمر الذي ترتب عليه انتقالنا إلى لون آخر وهو البرتقالي بدرجاته المختلفة، هذا اللون الذي نتج من امتزاج اللونين الأبيض بالأصفر.
ومما لاشك فيه أن عنصر اللون من العناصر الأساسية التي يتم توظيفها في اللوحات من خلال الريشة والألوان الزيتية أو المائية، أما في الصور الفوتوغرافية فإن هذا العنصر يتم توظيفه من خلال مفردة تعبيرية أخرى هي الضوء، ذلك لأن نواحي التركيز على هذا العنصر تحدد الكثير من الدلالات المنبثقة في الصورة.
ولما كان الإنتاج الفني لأي فنان مرآة صادقة لذاتيته الفنية وأصدق تعبير لها، فإن المنظر الأول في الصورة رقم (1) بكل ما فيه من مفردات توحي بالبداية والحياة تعكس ذاتية الفنان محمد الزبير بكل ما فيها من توق مفعم بالحياة، وهو ما يتضح من اختياره اللونين الأحمر والأبيض موضوعين أساسيين في الصورة، فضلاً عن التركيز على لعبة التوزيع واختلاطها بالإضاءة.
وإذا كانت الدلالة الأساسية التي يبحث عنها الفنان محمد الزبير في صورته هي دلالة الشروق أي الحياة، لا الغروب أي الموت، ويلح في التأكيد على انبثاق الحياة من الموت، فإن اختياره للونين الأحمر والأبيض اختيار يتسق مع الدلالة المنجزة في الصورة، إذ اللونان الأحمر والأبيض يعدان من الألوان الأساسية، لا تخلقان من ألوان أخرى، بل يُخلق منهما بقية الألوان.
ويمضي الفنان محمد الزبير في التأكيد على دلالة الاستمرارية والحياة من خلال بقية مفردات المنظر (الصورة)، فنلاحظ مركزية طائر النورس في الصورة، فضلاً عن وجوده في حالة طيران أمام قرص الشمس، وعملية الطيران بما فيها من تصاعدية رأسية، مع وجود قرص الشمس بما يوحي به هذا الوجود من هيمنة وانتشار أفقي لأشعة الشمس على المكان، ينقل لنا الحركة الرأسية والأفقية للمنظر التي يكملها الفنان محمد الزبير من خلال عنصري البحر والأفق بما فيهما من انتشار رأسي وأفقي.
وسعى الفنان محمد الزبير نحو إبراز حركة المكان في صورته (المنظر) أمر له فاعليته، لما في تحديد حركة المكان من دور أساسي يبرز جماليات المكان ودلالته الفنية، فالحركة الرأسية والأفقية في صورة الفنان تتسق مع المعنى الذي يرمي إليه وهو انبثاق الشروق من الغروب في آنية واحدة، وبعبارة أخرى انتشار وهيمنـة الحيـاة بعـد ولادة جديــدة تتحقق من خلال مراتب التطهر والخلاص (Purity and Salvation)، ومن ثم كان التركيز على إبراز التقاطع بين الحركة الأفقية والرأسية للمكان، لما في هذا التقاطع من إيحاءات الصليب، رمز المسيح عليه السلام مخلص البشرية من الخطيئة، فضلاً عن وجود البحر (العنصر المائي) رمز التطهر الإنساني (الذنوب)، وقرص الشمس بما فيه من توهج حراري يذكرنا برمزية النار المحتوية على دلالات تخليص الشوائب، وأخيراً وجود الأفق (السماء مقر الآلهة في الميثولوجيات القديمة والأديان السماوية)، بما يحويه هذا الوجود من دلالات الكمال والارتقاء، التي تكتمل بالحركة التصاعدية لتحليق الطائر، وتوافر الخلفية البيضاء ورائه تنم عن الطهر والصفاء الملائكي، بالإضافة إلى السمو الروحي (الحركة التصاعدية في الطيران).
والفنان محمد الزبير لا يكتف بإبراز فكرة الميلاد الجديد في الصورة بكل ما فيها من معان الخلاص والصفاء والطهر والسمو والارتقاء… إلخ، بل يسعى نحو تأكيد هذه الحياة الجديدة من خلال الشكل الدائري لقرص الشمس بما في هذا الشكل من دلالات الاستمرارية، فضلاً عن سقوط ذات القرص وهو يحمل طائر النورس داخل عمق البحر (رمز الرحم والميلاد الجديد)؛ ففي حركة الهبوط التدريجية تنبثق دائرية شكلية أخرى أكدها محمد الزبير بانعكاس قرص الشمس أسفل الصورة وبالتحديد تحت ساقي طائري النورس، وهما في حالة سكون.
وكأن الفنان أراد أن يقول: لم تختف الشمس ولم تمت، بل ذهبت في رحلتها الأبدية وراء الأفق لتدخل في رحم المياه فتبعث مرة أخرى ومن ثم يبعث معها كل حركة، وكل حياة، وكل جديد.
والأمر الذي لا شك فيه أن التقاط الفنان محمد الزبير لهذه اللقطة البديعة ما هو إلا انعكاس لرغبة الإنسان في التحول إلى شمس أو طائر أو بحر… لتحقيق التجاوز الزماني والمكاني، فمَنْ منا من لا يتوقف شوقاً حال رؤيته للطائر في طيرانه، أو الشمس في شروقها أو غيابها، أو البحر في اتساعه وجماله، أو الأفق في ارتفاعها وبعدها… مَنْ  منا مِنْ لا يتوق رغبة في التحول إلى إحدى هذه المخلوقات؟ حتى يستطيع تحقيق ما لا يتمكن منه في زمانه ومكانه الموجودين والمحدودين؛ وبعبارة أخرى مَنْ منا مَنْ لا يحلم بالمستحيل؟ وحين يصبح الحلم مستحيلاً، تتصاعد رغبة الوجود الأسطوري في زمان ومكان آخرين.
تلك كانت رسالة الفنان محمد الزبير في لقطته الفريدة وهي ذات الرسالة تتكرر في المنظر رقم (2) مع اختلاف طفيف لمفردات التعبير، إذ تم توظيف درجات اللون الأسود وهو لون أساسي- بدلاً من الأحمر- بكل درجاته الرصاصية، وهذا التدرج في توزيع اللون الرصاصي الذي يصل بنا إلى اللون الأبيض، يحل محل طائر النورس وقرص الشمس من حيث الدور والدلالة، فضلاً عن بقية مفردات المنظر تقوم بنفس الدلالة في المنظر السابق، وثمة اختلاف تعبيري آخر بين المنظرين، يتمثل في أن الفنان محمد الزبير اتجه نحو توصيل الرسالة بأسلوب التبئير (العدسة المركزة على شيء معين)، وهو ذات الأسلوب يتكرر في المنظر الثاني من خلال التركيز على توضيح اللون، ولكن مع اختلاف شكل هذا التركيز إذ يأخذ أسلوب التمركز أو التحديد في المنظر الأول، ومن ثم بدا قرص الشمس وطيور النورس بشكل محدد، بينما أخذ هذا الأسلوب شكل الانتشار والتماهي في المنظر الثاني.
وأختتم هذه القراءة لعد سة الفنان بأن أقول له: عفواً … أعلم أن الهدايا لا تهدى ولا تُرد، ولكن اسمح لي أيها الفنان أن أهدي إليك هاذين النموذجين من فنـك التصويـري بمناسبة عيد ميلادك (24 أكتوبر)، إيماناً مني أنهما يعدان في تنوعهما الدلالي امتداداً لذاتيتك المتنوعة الأسلوب، تلك الذاتية التي أكدتها معرضك الأول (عُمان بلادي الجميلة)- والذي أأمل أن لا يكون الأخير- بكل ما فيه من تنوع تصويري شمل لقطات لموضوعات مختلفة، فضلاً عن الشمول المكاني والزماني.
وكل عام وأنتم بخير، وتنوع فني متجدد يتسق مع تركيبة نادرة وفريدة من نوعها، إذ جمعت بين الإنسان والوزير ورجل الأعمال والفنان على صعيد واحد.

الكاتب: Asyah Al Bualy

Born in Zanzibar on 1962, An Omani citizen. PhD. in criticism with Honours from Cairo University in May 2000. The posts that she has held have been Assistant Professor at Sultan Qaboos University, from August 2000 until June 2006. Since June 2006, she has been working at the Research Council, as Adviser for culture and humanities upon a Royal Order by His Majesty Sultan Qaboos bin Said. The content on this space is written by Dr. Asyah, it is licensed under the Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License.

أضف تعليق